فصل: من لطائف القشيري في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}.
قوله: {نوحي إِلَيْهِمْ}: قرأ حفصٌ {نُوْحي} بنون العظمة مبنيًا للفاعلِ أي: نوحي نحن. والباقون بالياء وفتحِ الحاء مبنيًا للمفعولِ، وقد تقدَّم ذلك في يوسف. وهذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ نعتًا لـ: {رِجالًا} و{إليهم} في القراءةِ الأولى منصوبُ المحلِّ. والمفعولُ محذوفٌ أي: نُوحي إليهم القرآنَ أو الذِّكْرَ، ومرفوعُ المحلِّ في القراءةِ الثانيةِ لقيامِه مَقامَ الفاعلِ.
قوله: {إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} جوابُ الشرطِ محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: فاسْأَلوهم، حُذِفَ لدلالةِ ما تقدَّم عليه. ومفعولا العِلْمِ يجوز أَنْ يُرادا أي: لا تَعْلمون أنَّ ذلك كذلك، ويجوزُ أن لا يُرادا أي: إنْ كنتم مِنْ غيرِ ذوي العلمِ.
{وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وما كَانُوا خَالِدِينَ (8)}.
قوله: {لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام}: في هذه الجملةِ وجهان، أظهرُهما: أنَّها في محلِّ نصب نعتًا لـ: {جَسَدًا}، و{جَسَدًا} مفردٌ يُراد به الجمعُ، وهو على حذفِ مضافٍ أي: ذوي أجسادٍ غيرِ آكلينَ الطعامَ. وهذا رَدٌّ لقولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} [الفرقان: 7]. و{جعل} يجوز أن يكونَ بمعنى صَيَّر فيتعدى لاثنين، ثانيهما {جسدًا}، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى خلق وأنشأ فيتعدى لواحدٍ، فيكون {جسدًا} حالًا بتأويلِه بمشتقٍ أي: مُتَغَذِّيْنَ؛ لأنَّ الجسدَ لابد له من الغذاءِ.
وقال أبو البقاء: أن {لا يأكلون} حالٌ أخرى بعد {جَسَدًا} إذا قلنا إنَّ {جعل} يتعدى لواحدٍ. وفيه نَظَرٌ، بل هي صفةٌ لـ: {جَسَدًا} بالاعتبارين، لا يليق المعنى إلاَّ به.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نشاء وَأَهْلَكِنا الْمُسْرِفِينَ (9)}.
قوله: {صَدَقْنَاهُمُ الوعد}: صَدَق يتعدَّى لاثنينِ إلى ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذف. تقولُ: صَدَقْتُك الحديثَ، وفي الحديث. نحو: أمر واستغفر وقد تقدَّم في آل عمران. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}.
لمَا قالوا لولا أَنزل علينا الملائكة أخبر أنه لم يُرْسِلْ إلى الناس رسولًا فيما سَبَقَ من الأزمان الماضية والقرون الخالية إلا بَشرًّا، وذَكَرَ أنَّ الخصوصية لهم كانت بإرسال الله إياهم.
ثم قال: {فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}: الخطاب للكلِّ والمراد منه الأمة، وأهلُ الذكر العلماءُ من أكابر هذه الأمة والذين آمنوا بنبينا محمد- صلى الله عليه وسلم- ويقال هم أهل الفهم من الله أصحاب الإلهام الذين في محل الإعلام من الحقِّ- سبحانه- أو من يُحْسِنُ الإفهامَ عن الحق.
ويقال العالم يرجع إلى الله في المعاملات والعبادات، وإذا اشتكلت الواقعةُ فيخبر عن اجتهاده، وشرطه ألا يكون مقلدًا، ويكون من أهل الاجتهاد، فإذا لم يخالف النصَّ وأدى اجتهاده إلى شيء ولم يخالف أصلًا مقطوعًا بصحته وجب قبول فتواه، وأمَا الحكيم فإذا تكلم في المعاملة فإنما يقبل منه إذا سبقت منه المنازلة لما يُفْتَى به فإن لم تتقدم له من قِبَله المنازلة ففتواه في هذا الطريق كفتوى المقلِّد في مسائل الشرع.
فأمَا العارف فيجب أن يتكلم في هذا الطريق عن وَجْدِه- إنْ كان- وإلا فلا تُقْبَلُ فتواه ولا تُشْمَع.
{وما جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وما كَانُوا خَالِدِينَ (8)}.
لمَا عَيَّروا الرسولَ- عليه السلام- بقولهم: ما لهذا الرسول يأكل الطعام؟.. أخبر أن أَكْلَ الطعام ليس بقادح في المعنى الذي يختص به الأكابر، فلا منافاة بين أكل الطعام وما تُكِنُّه القلَوبُ والسرائر من وجوه التعريف.
ويقال: النفوس لا خبر لها مما به القلوب، والقلب لا خبر له مما تتحقق به الروح وما فوق الروح وألطف منه وهو السرُّ.
قوله: {وما كَانُوا خَالِدِينَ}: أي إنهم على ممرٍ ومعْبرٍ، ولا سبيلَ اليومَ لمخلوقٍ إلى الخُلْد.
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نشاء وَأَهْلَكِنا الْمُسْرِفِينَ (9)}.
الحقُّ- سبحانه- يُحَقِّق وعْدَه وإنْ تباطأ بتحقيقه الوقتُ فيما أخبر أنه يكون. والموعود من نصرة الله لأهل الحق إنما هو بإعلاء كلمة الدِّين، وإرغام مَنْ نَابَذَ الحقَّ مِنَ الجاحدين، وتحقيق ذلك بالبيان والحجة، وإيضاح وجه الدلالة، وبيان خطأ الشبهة. اهـ.

.قال التستري:

قوله تعالى: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} (7) قال: يعني أهل الفهم عن الله، والعلماء بالله وبأوامره وبأيامه. قيل: صفهم لنا.
قال: العلماء ثلاثة: عالم بالله لا بأمر الله ولا بأيام الله، وهو عامة المؤمنين؛ وعالم بالله وبأمر الله لا بأيام الله، وهم العلماء؛ وعالم بالله وبأمر الله وبأيام الله، وهم النبيون والصديقون. اهـ.

.تفسير الآيات (10- 15):

قوله تعالى: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوما آخَرِينَ (11) فَلَمَا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما انقضى ما لزمهم بسبب الإقرار برسلية البشر من الإقرار برسلية رسولهم- صلى الله عليه وسلم- لكونه مساويًا لهم في النوع والإتيان بالمعجز، وما فعل بهم وبأممهم ترغيبًا وترهيبًا، وختم ذلك بأنه أباد المسرفين، ومحا ذكرهم إلا بالبشر، التفت إلى الذكر الذي طعنوا فيه، فقال مجيبًا لمن كأنه قال: هذا الجواب عن الطعن في الرسول قد عرف، فما الجواب عن الطعن في الذكر؟ معرضًا عن جوابهم لما تقدم من الإشارة بحرف الإضراب إلى أن ما طعنوا به فيه لا يقوله عاقل، مبينًا لما لهم فيه من الغبطة التي هم لها رادون، والنعمة التي هم بها كافرون: {لقد} أي وعزتنا لقد {أنزلنا} بما لنا من العظمة {إليكم} يا معشر قريش بل العرب قاطبة {كتابًا} أي جامعًا لجميع المحاسن لا يغسله الماء ولا يحرقه النار {فيه ذكركم} طوال الدهر بالخير إن أطعتم، والشر إن عصيتم، وبه شرفكم على سائر الأمم بشرف ما فيه من مكارم الأخلاق التي كنتم تتفاخرون بها وبشرف نبيكم الذي تقولون عليه الأباطيل، وتكثرون فيه القال والقيل.
ولما تم ذلك على هذا الوجه، نبه أنه يتعين على كل ذي لب الإقبال عليه والمسارعة إليه، فحسن جدًّا قوله منكرًا عليهم منبهًا على أن علم ذلك لا يحتاج إلى غير العقل المجرد عن الهوى: {أفلا تعقلون}.
ولما كان التقدير: فإن عدلتم بقبوله شرفناكم، وإن ظلمتم برده عنادًا أهلَكِناكم كما أهلَكِنا من كان قبلكم، عطف عليه قوله: {وكم قصمنا} أي بعظمتنا {من قرية} جعلناها كالشيء اليابس الذي كسر فتباينت أجزاؤه، والإناء الذي فت فانكب ماؤه؛ وأشار بالقصم الذي هو أفظع الكسر إلى أنها كانت باجتماع الكلمة وشدة الشكيمة كالحجر الرخام في الصلابة والقوة، وكم في هذا السياق يقتضي الكثرة، ثم علل إهلاكها وانتقالها بقوله: {كانت ظالمة} ثم بين الغنى عنها بقوله: {وأنشأنا} أي بعظمتنا.
ولما كان الدهر لم يخل قط بعد آدم من إنشاء وإفناء، فكان المراد أن الإنشاء بعد الإهلاك يستغرق الزمان على التعاقب، بيانًا لأن المهلكين ضروا أنفسهم من غير افتقار إليهم، اسقط الجار فقال: {بعدها قوما} أي أقوياء، وحقق أنهم لا قرابة قريبة بينهم بقوله: {ءاخرين} ثم بين حالها عند إحلال البأس بها فقال: {فلما أحسوا} أي أدرك أهلها بحواسهم {بأسنا} أي بما فيه من العظمة {إذا هم} أي من غير توقف أصلًا {منها} أي القرية {يركضون} هاربين عنها مسرعين كمن يركض الخيل- أي يحركها- للعدو، بعد تجبرهم على الرسل وقولهم لهم {لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا} [إبراهيم: 13] فناداهم لسان الحال تقريعًا تبشيعًا لحالهم وتفظيعًا: {لا تركضوا} وصور التهكم بهم بأعظم صورة فقال: {وارجعوا} إلى قريتكم {إلى ما}.
ولما كان التأسيف إنما هو على العيش الرافه لا على كونه من معط معين، بني للمفعول قوله: {أترفتم فيه} أي منها، ويجوز أن يكون بني للمجهول إشارة إلى غفلتهم عن العلم لمن أترفهم أو إلى أنهم كانوا ينسبون نعمتهم إلى قواهم، ولو عدوها من الله لشكروه فنفعهم.
ولما كان أعظم ما يؤسف عليه بعد العيش الناعم المسكن، قال: {ومساكنكم} أي التي كنتم تفتخرون بها على الضعفاء من عبادي بما أتقنتم من بنائها، وأوسعتم من فنائها، وعليتم من مقاعدها، وحسنتم من مشاهدها ومعاهدها {لعلكم تسألون} في الإيمان بما كنتم تسألون، فتابوا بما عندكم من الأنفة ومزيد الحمية والعظمة، أو تسألون في الحوائج والمهمات، كما يكون الرؤساء في مقاعدهم العلية، ومراتبهم البهية، فيجيبون سائلهم بما شاؤوا على تؤدة وأحوال مهل تخالف أحوال الراكض العجل {أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال} [إبراهيم: 44].
ولما كان كأنه قيل: بما أجابوا هذا المقال؟ قيل {قالوا} حين لا نفع لقولهم عند نزول البأس: {يا ويلنا} إشارة إلى أنه حل بهم لأنه لا ينادي إلا القريب، وترفقًا له كما يقول الشخص لمن يضربه: يا سيدي- كأنه يستغيث به ليكف عنه، وذلك غباوة منهم، وعمى عن الذي أحله بهم، لأنهم كالبهائم لا ينظرون إلا السبب الأقرب؛ ثم عللوا حلوله بهم تأكيدًا لترفقهم بقولهم: {إنا كنا} أي جبلة لنا وطبعًا {ظالمين} حيث كذبنا الرسل، وعصينا أمر ربنا، فاعترفوا حيث لم ينفعهم الاعتراف لفوات محله {فما} أي فتسبب عن إحلالنا ذلك البأس بهم أنه ما {زالت تلك} أي الدعوة البعيدة عن الخير والسلامة، وهي قولهم: يا ويلنا {دعواهم} يرددونها لا يكون دعوى لهم غيرها، لأن الويل ملازم لهم غير منفك عنهم، وترفقهم له غير نافعهم {حتى جعلناهم} بما لنا من العظمة {حصيدًا} كالزرع المحصود.
ولما كان هذا وما بعده مثل حلو حامض في الزمان، جعلا خبرًا واحدًا ليكون جعل مقتصرًا على مفعولين فقال: {خامدين} أي جامعين للانقطاع والخفوت، لا حركة لهم ولا صوت، كالنار المضطرمة إذا بطل لهيبها ثم جمرها وصارت رمادًا، ولم يك ينفعهم إيمانهم واعترافهم بالظلم وخضوعهم لما رأوا بأسنا. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم بين تعالى بقوله: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كتابا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} عظيم نعمته عليهم بالقرآن في الدين والدنيا، فلذلك قال فيه: {ذِكْرُكُمْ} وفيه ثلاثة أوجه: أحدها؛ ذكر شرفكم وصيتكم، كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44].
وثانيها: المراد فيه تذكرة لكم لتحذروا ما لا يحل وترغبوا فيما يجب، ويكون المراد بالذكر الوعد والوعيد، كما قال: {وَذَكّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55].
وثالثها: المراد ذكر دينكم ما يلزم وما لا يلزم لتفوزوا بالجنة إذا تمسكتم به وكل ذلك محتمل، وقوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} كالبعث على التدبر في القرآن لأنهم كانوا غفلاء لأن الخوض من لوازم الغفلة والتدبر دافع لذلك الخوض ودفع الضرر عن النفس من لوازم الفعل فمن لم يتدبر فكأنه خرج عن العقل.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوما آخَرِينَ (11)}.
اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم تلك الاعتراضات وكانت تلك الاعتراضات ظاهرة السقوط لأن شرائط الإعجاز لما تمت في القرآن ظهر حينئذ لكل عاقل كونه معجزًا، وعند ذلك ظهر أن اشتغالهم بإيراد تلك الاعتراضات كان لأجل حب الدنيا وحب الرياسة فيها فبالغ سبحانه في زجرهم عن ذلك فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ} قال صاحب الكشاف القصم أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء بخلاف الفصم وذكر القرية وأنها ظالمة وأراد أهلها توسعًا لدلالة العقل على أنها لا تكون ظالمة ولا مكلفة ولدلالة قوله تعالى: {وأنشأنا بعدها قوما آخرين} فالمعنى أهلَكِنا قوما وأنشأنا قوما آخرين وقال: {فَلَمَا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} إلى قوله: {قَالُواْ يا ويلنا إِنَّا كُنَّا ظالمين} وكل ذلك لا يليق إلا بأهلها الذين كلفوا بتصديق الرسل فكذبوهم ولولا هذه الدلائل لما جاز منه سبحانه ذكر المجاز لأنه يكون ذلك موهمًا للكذب، واختلفوا في هذا الإهلاك فقال ابن عباس: المراد منه القتل بالسيوف والمراد بالقرية حضور وهي وسحول قريتان باليمن ينسب إليهما الثياب.
وفي الحديث: «كفن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثوبين سحوليين» وروى: «حضوريين بعث الله إليهم نبيًّا فقتلوه فسلط الله عليهم بختنصر كما سلطه على أهل بيت المقدس فاستأصلهم» وروى: «أنه لما أخذتهم السيوف نادى مناد من السماء يا لثارات الأنبياء. فندموا واعترفوا بالخطأ» وقال الحسن: المراد عذاب الاستئصال، واعلم أن هذا أقرب لأن إضافة ذلك إلى الله تعالى أقرب من إضافته إلى القاتل، ثم بتقدير أن يحمل ذلك على عذاب القتل فما الدليل على قول ابن عباس ولعل ابن عباس ذكر حضور بأنها إحدى القرى التي أرادها الله تعالى بهذه الآية، وأما قوله تعالى: {فَلَمَا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} فالمعنى لما علموا شدة عذابنا وبطشنا علم حس ومشاهدة ركضوا في ديارهم، والركض ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله تعالى: {اركض بِرِجْلِكَ} فيجوز أن يكونوا ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين من قريتهم لما أدركتهم مقدمة العذاب، ويجوز أن يشبهوا في سرعة عدوهم على أرجلهم بالراكبين الراكضين، أما قوله: {لاَ تَرْكُضُواْ} قال صاحب الكشاف: القول محذوف، فإن قلت من القائل قلنا يحتمل أن يكون بعض الملائكة ومن ثم من المؤمنين، أو يكونوا خلقاء بأن يقال لهم ذلك وإن لم يقل، أو يقوله رب العزة ويسمعه ملائكته لينفعهم في دينهم أو يلهمهم ذلك فيحدثون به نفوسهم، أما قوله: {وارجعوا إلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ ومساكنكم} أي من العيش والرفاهية والحال الناعمة، والإتراف إبطار النعمة وهي الترفه، أما قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} فهو تهكم بهم وتوبيخ، ثم فيه وجوه: أحدها: أي ارجعوا إلى نعمكم ومساكنكم لعلكم تسألون غدًا عما جرى عليكم ونزل بأموالكم ومساكنكم فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة.
وثانيها: ارجعوا كما كنتم في مجالسكم حتى تسألكم عبيدكم ومن ينفذ فيه أمركم ونهيكم ويقول لكم بم تأمرون وماذا ترسمون كعادة المخدومين.
وثالثها: تسألكم الناس في أنديتكم لتعاونوهم في نوازل الخطوب ويستشيرونكم في المهمات ويستعينون بآرائكم.
ورابعها: يسألكم الوافدون عليكم والطامعون فيكم إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس وطلب الثناء أو كانوا بخلاء فقيل لهم ذلك تهكمًا إلى تهكم وتوبيخًا إلى توبيخ، أما قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} فقال صاحب الكشاف تلك إشارة إلى {يا ويلنا} لأنها عدوى كأنه قيل فما زالت تلك الدعوى دعواهم، والدعوى بمعنى الدعوة قال تعالى: {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} [يونس: 10] فإن قلت: لم سميت دعوى؟ قلت: لأنهم كانوا دعوا بالويل: {فَقَالُواْ يا ويلَنَا} أي يا ويل احضر فهذا وقتك، وتلك مرفوع أو منصوب إسمًا أو خبرًا وكذلك: {كَانَ دَعْوَاهُمْ} قال المفسرون: لم يزالوا يكررون هذه الكلمة فلم ينفعهم ذلك كقوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمانهم لَمَا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] أما قوله: {حتى جعلناهم حَصِيدًا خامدين} فالحصيد الزرع المحصود أي جعلناهم مثل الحصيد شبههم به في استئصالهم، كما تقول جعلناهم رمادًا أي مثل الرماد فإن قيل: كيف ينصب جعل ثلاثة مفاعيل، قلت: حكم الاثنين الأخيرين حكم الواحد والمعنى جعلناهم جامعين لهذين الوصفين، والمراد أنهم أهلكوا بذلك العذاب حتى لم يبق لهم حس ولا حركة وجفوا كما يجف الحصيد، وخمدوا كما تخمد النار. اهـ.